بسم الله الرحمن الرحيم
في مايو 1937م عقدت الجمعية الطبية المصرية مؤتمرًا لمناقشة موضوع "تحديد النسل" بكلية الطب، ودعت فيه فضيلة الأستاذ المرشد العام حسن البنا، فألقى فضيلتُه الكلمةَ التالية تحت عنوان:
"خطر يتهدد الأمة وينذر بفنائها.. كيف ولمَ نلتمس لتحديد النسل؟"
جاء الإسلام نظامًا كاملاً، يشمل كليات الشئون الإنسانية عمليةً وروحيةً, ووصف نفسه بأنه دين البشرية جميعًا, ورسالةُ الله على يد نبيِّه محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ﴾ (الأنبياء:107).
والإسلام دين فطري لا يركن إلى الخيال ولا يعتمد عليه, بل يواجه حقائق الأشياء, ونحن نعلم أن كل تشريع لا تحميه قوةٌ تنفيذيةٌ تشريع عاطل، مهما كان عادلاً رحيمًا, فلا بد إذن من قوة تحمي التشريع وتقوم على تنفيذه، وتقنع النفوس الضعيفة والمتمردة التي لا تحتمل البرهان ولا تنصاع للدليل بإجلاله واحترامه.
لهذا شرع الإسلام الجهاد, وفرض على نبيه جنديةً عامةً غايتُها مناصرة الحق أينما كان, كما قال القرآن الكريم: ﴿حَتَّى لاَ تَكُوْنَ فِتْنَةٌ وَيَكُوْنَ الدِّيْنُ كُلُّهُ للهِ﴾ (الأنفال:39).
ومن هنا أمَرَ الإسلام بالقوة والاستعداد في قوله تعالى:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّةٍ..﴾ (الأنفال:60)، ثم وجَّه هذه القوة أفضل توجيه وأكرمه, في قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنآنُ قَوْمٍ عَلَى ألاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة:.
وإذا كانت هذه فكرة الإسلام ورسالته, وكانت القوة أول ما تكون بالعدد الكثير من العاملين, وإنما العزة بالكثرة، وكانت القاعدة الأصولية أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. فكان لنا أن نستخلص من هذه نتيجة منطقية طبيعية، هي: أن الإسلام يأمر بالإكثار من النسل, ويحضُّ عليه ويدعوا إليه, وبالعكس لا يرى التحديد والضبط.
وتطبيقًا على ذلك وتحقيقًا له وردت الآثار عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تحثُّ على الزواج, وتبيِّن أن الغاية منه الأولاد قبل كل شيءٍ ومن ذلك ما يلي:
1- عن معقل بن يسار- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله!! إني أحببت امرأةً ذات حسب ومنصب ومال, إلا أنها لا تلد, أفأتزوجها؟فنهاه, ثم أتاه الثانية, فقال له مثل ذلك, ثم أتاه الثالثة, فقال له: "تزوجوا الودود الولود, فإني مكاثر بكم الأمم".. (رواه أبو داود والنسائي والحاكم).
2- وعن معاوية بن حيدة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "سوداءٌ ولودٌ خيرٌ من حسناء لا تلد, وإني مكاثر بكم الأمم" (رواه الطبراني).
3 - نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن العزوبة للقادر على الزواج.
وهذه هي القاعدة الأصلية التي جرى عليها الإسلام, وأجمع على قبولها المسلمون.
وهناك نظرة أخرى, وهي:
أن الإسلام- وهو التشريع الذي جاء ليكون عامًا خالدًا- وضع في حسابه ظروف الأفراد والأسر, والأمم التي تختلف باختلاف أحوال الحياة, وحوادث الكون, فجعل العزائم والرخص، وقرر أن الضرورات تبيح المحظورات, وأنه "لا ضرر ولا ضرار"، وأن الاستثناء قد يعرض للقاعدة الكلية، وخصوصًا في المصالح المرسلة والشئون العارضة، ومن هنا اختلفت النصوص والآراء في كثير من المسائل، ومنها هذه المسألة، وإنا نوجز ما ورد فيما يلي:
- وردت أحاديث بحرمة العزل, وبأنه الموءودة الصغرى، وبها أخذ فريق من أئمة الفقهاء، وحكموا بحرمته مطلقًا.
- وردت أحاديث تبيحه, وتبين أنه لا يؤخر من قضاء الله شيئًا, وبها أخذ فريق من أئمة الفقهاء أيضًا, فحكموا بالإباحة مطلقًا أو مع الكراهية.
- وتوسط فريق ثالث, فاشترط للإباحة إذن الزوجة, وتفرَّع على هذا الأصل حكم تعاطي الأدوية لمنع الحمل, وتقليل النسل، فالذين حرموا العزل حكموا بحرمته, والذين أباحوا العزل حكموا بإباحته, والذين توسطوا اشترطوا رضاء الزوجة في هذا أيضًا.
- وبعض الذين أباحوا العزل حرموا منع الحمل بتعاطي الأدوية, ومحاولة تقليل النسل بأية وسيلة من الوسائل, ومن هؤلاء جمهور المالكية, وبعض فقهاء الشافعية، وإليك بعض الأقوال لهؤلاء:
- نُقل عن القاضي أبي بكر بن العربي أن تعاطي ما يقطع الماء عن الرجل أو يبرد الرحم عن المرأة لا يجوز.
- وقال الحطاب: قال الجزولي في شرح الرسالة: "ولا يجوز للإنسان أن يشرب من الأدوية ما يقلل نسله".
- قال صاحب المعيار: "إن المنصوص لأئمتنا- رضوان الله عليهم- المنع من استعمال ما يبرد الرحم, أو يستخرج ما هو بداخله من الماء, وعليه المحصلون والنظار".
- نقل في شرح الإحياء عن العماد بن يونس والعز بن عبد السلام، وهما من أئمة الشافعية أنه يحرم على المرأة استعمال دواء مانع للحمل.
- قال ابن يونس: ولو رضي الزوج.
علمنا أن الإسلام مع وصيته بالإكثار من النسل، وإرشاده إلى أسباب القوة فيه قد يجعل رخصة تستخدم إذا توافرت الأسباب والدواعي التي تدعو إليها، وعلينا إذا أردنا أن نستخدم هذه الرخصة أن نسأل أنفسنا الأسئلة الآتية:
- أليست هناك أسباب تدعو إلى الإكثار من النسل لا إلى تحديده؟!
- هل ثبت بأدلة قوية وقرائن صادقة أن هناك من الأسباب ما يدعو إلى التحديد؟! وهل تأكدنا أن كثرة النسل هي السبب في الضائقة الاجتماعية؟!
- هل يمكن استخدام علاج اجتماعي آخر؟!
- هل وثقنا من أنه سوف لا تنجُم عن هذا التحديد أضرارٌ خطيرةٌ؟
- هل اتُّخِذت الاحتياطات الكافية لمنع هذه الأضرار؟!
ما الوسائل التي ستُتَّخذ؟ وهل سيبيحها الإسلام؟!
هل وثقنا من أن هذه الرخصة ستُستخدم بقدر الضروري فقط, وأنه سيستخدمها الذين يراد منهم استخدامها, وأن العود إلى القاعدة الكلية, وهي ترك التحديد سيكون ممكنًا إذا ما دعت الحاجة إليه؟!
وأخيراً هل الأفضل في ذلك أن يعالج بصورة عامة أو بصورة فردية خاصة؟!
أليس من الجائز أن تسفر هذه التجربة عن عجز عن معالجة الأضرار المزعومة, كوفيات الأطفال مثلاً، فتظل هذه الدواعي كما هي, ويضاف إليها الأضرار التي ستنجُم عن التحديد؟!
وملاحظة أخرى قد تكون بعيدةً عن تفكيرنا المحدود بالواقع والبيئة الخاصة، وإن كانت صحيحة في ذاتها, وهي أن الإسلام لا يتقيَّد بهذا التقسيم السياسي في الوطن الإسلامي العام, فهو: عقيدة ووطن وجنسية, وأرض المسلمين في نظره وطن واحد, فالزيادة في جزء منه قد تسدُّ نقصًا في جزء آخر.
في مايو 1937م عقدت الجمعية الطبية المصرية مؤتمرًا لمناقشة موضوع "تحديد النسل" بكلية الطب، ودعت فيه فضيلة الأستاذ المرشد العام حسن البنا، فألقى فضيلتُه الكلمةَ التالية تحت عنوان:
"خطر يتهدد الأمة وينذر بفنائها.. كيف ولمَ نلتمس لتحديد النسل؟"
جاء الإسلام نظامًا كاملاً، يشمل كليات الشئون الإنسانية عمليةً وروحيةً, ووصف نفسه بأنه دين البشرية جميعًا, ورسالةُ الله على يد نبيِّه محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ﴾ (الأنبياء:107).
والإسلام دين فطري لا يركن إلى الخيال ولا يعتمد عليه, بل يواجه حقائق الأشياء, ونحن نعلم أن كل تشريع لا تحميه قوةٌ تنفيذيةٌ تشريع عاطل، مهما كان عادلاً رحيمًا, فلا بد إذن من قوة تحمي التشريع وتقوم على تنفيذه، وتقنع النفوس الضعيفة والمتمردة التي لا تحتمل البرهان ولا تنصاع للدليل بإجلاله واحترامه.
لهذا شرع الإسلام الجهاد, وفرض على نبيه جنديةً عامةً غايتُها مناصرة الحق أينما كان, كما قال القرآن الكريم: ﴿حَتَّى لاَ تَكُوْنَ فِتْنَةٌ وَيَكُوْنَ الدِّيْنُ كُلُّهُ للهِ﴾ (الأنفال:39).
ومن هنا أمَرَ الإسلام بالقوة والاستعداد في قوله تعالى:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّةٍ..﴾ (الأنفال:60)، ثم وجَّه هذه القوة أفضل توجيه وأكرمه, في قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنآنُ قَوْمٍ عَلَى ألاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة:.
وإذا كانت هذه فكرة الإسلام ورسالته, وكانت القوة أول ما تكون بالعدد الكثير من العاملين, وإنما العزة بالكثرة، وكانت القاعدة الأصولية أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. فكان لنا أن نستخلص من هذه نتيجة منطقية طبيعية، هي: أن الإسلام يأمر بالإكثار من النسل, ويحضُّ عليه ويدعوا إليه, وبالعكس لا يرى التحديد والضبط.
وتطبيقًا على ذلك وتحقيقًا له وردت الآثار عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تحثُّ على الزواج, وتبيِّن أن الغاية منه الأولاد قبل كل شيءٍ ومن ذلك ما يلي:
1- عن معقل بن يسار- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله!! إني أحببت امرأةً ذات حسب ومنصب ومال, إلا أنها لا تلد, أفأتزوجها؟فنهاه, ثم أتاه الثانية, فقال له مثل ذلك, ثم أتاه الثالثة, فقال له: "تزوجوا الودود الولود, فإني مكاثر بكم الأمم".. (رواه أبو داود والنسائي والحاكم).
2- وعن معاوية بن حيدة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "سوداءٌ ولودٌ خيرٌ من حسناء لا تلد, وإني مكاثر بكم الأمم" (رواه الطبراني).
3 - نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن العزوبة للقادر على الزواج.
وهذه هي القاعدة الأصلية التي جرى عليها الإسلام, وأجمع على قبولها المسلمون.
وهناك نظرة أخرى, وهي:
أن الإسلام- وهو التشريع الذي جاء ليكون عامًا خالدًا- وضع في حسابه ظروف الأفراد والأسر, والأمم التي تختلف باختلاف أحوال الحياة, وحوادث الكون, فجعل العزائم والرخص، وقرر أن الضرورات تبيح المحظورات, وأنه "لا ضرر ولا ضرار"، وأن الاستثناء قد يعرض للقاعدة الكلية، وخصوصًا في المصالح المرسلة والشئون العارضة، ومن هنا اختلفت النصوص والآراء في كثير من المسائل، ومنها هذه المسألة، وإنا نوجز ما ورد فيما يلي:
- وردت أحاديث بحرمة العزل, وبأنه الموءودة الصغرى، وبها أخذ فريق من أئمة الفقهاء، وحكموا بحرمته مطلقًا.
- وردت أحاديث تبيحه, وتبين أنه لا يؤخر من قضاء الله شيئًا, وبها أخذ فريق من أئمة الفقهاء أيضًا, فحكموا بالإباحة مطلقًا أو مع الكراهية.
- وتوسط فريق ثالث, فاشترط للإباحة إذن الزوجة, وتفرَّع على هذا الأصل حكم تعاطي الأدوية لمنع الحمل, وتقليل النسل، فالذين حرموا العزل حكموا بحرمته, والذين أباحوا العزل حكموا بإباحته, والذين توسطوا اشترطوا رضاء الزوجة في هذا أيضًا.
- وبعض الذين أباحوا العزل حرموا منع الحمل بتعاطي الأدوية, ومحاولة تقليل النسل بأية وسيلة من الوسائل, ومن هؤلاء جمهور المالكية, وبعض فقهاء الشافعية، وإليك بعض الأقوال لهؤلاء:
- نُقل عن القاضي أبي بكر بن العربي أن تعاطي ما يقطع الماء عن الرجل أو يبرد الرحم عن المرأة لا يجوز.
- وقال الحطاب: قال الجزولي في شرح الرسالة: "ولا يجوز للإنسان أن يشرب من الأدوية ما يقلل نسله".
- قال صاحب المعيار: "إن المنصوص لأئمتنا- رضوان الله عليهم- المنع من استعمال ما يبرد الرحم, أو يستخرج ما هو بداخله من الماء, وعليه المحصلون والنظار".
- نقل في شرح الإحياء عن العماد بن يونس والعز بن عبد السلام، وهما من أئمة الشافعية أنه يحرم على المرأة استعمال دواء مانع للحمل.
- قال ابن يونس: ولو رضي الزوج.
علمنا أن الإسلام مع وصيته بالإكثار من النسل، وإرشاده إلى أسباب القوة فيه قد يجعل رخصة تستخدم إذا توافرت الأسباب والدواعي التي تدعو إليها، وعلينا إذا أردنا أن نستخدم هذه الرخصة أن نسأل أنفسنا الأسئلة الآتية:
- أليست هناك أسباب تدعو إلى الإكثار من النسل لا إلى تحديده؟!
- هل ثبت بأدلة قوية وقرائن صادقة أن هناك من الأسباب ما يدعو إلى التحديد؟! وهل تأكدنا أن كثرة النسل هي السبب في الضائقة الاجتماعية؟!
- هل يمكن استخدام علاج اجتماعي آخر؟!
- هل وثقنا من أنه سوف لا تنجُم عن هذا التحديد أضرارٌ خطيرةٌ؟
- هل اتُّخِذت الاحتياطات الكافية لمنع هذه الأضرار؟!
ما الوسائل التي ستُتَّخذ؟ وهل سيبيحها الإسلام؟!
هل وثقنا من أن هذه الرخصة ستُستخدم بقدر الضروري فقط, وأنه سيستخدمها الذين يراد منهم استخدامها, وأن العود إلى القاعدة الكلية, وهي ترك التحديد سيكون ممكنًا إذا ما دعت الحاجة إليه؟!
وأخيراً هل الأفضل في ذلك أن يعالج بصورة عامة أو بصورة فردية خاصة؟!
أليس من الجائز أن تسفر هذه التجربة عن عجز عن معالجة الأضرار المزعومة, كوفيات الأطفال مثلاً، فتظل هذه الدواعي كما هي, ويضاف إليها الأضرار التي ستنجُم عن التحديد؟!
وملاحظة أخرى قد تكون بعيدةً عن تفكيرنا المحدود بالواقع والبيئة الخاصة، وإن كانت صحيحة في ذاتها, وهي أن الإسلام لا يتقيَّد بهذا التقسيم السياسي في الوطن الإسلامي العام, فهو: عقيدة ووطن وجنسية, وأرض المسلمين في نظره وطن واحد, فالزيادة في جزء منه قد تسدُّ نقصًا في جزء آخر.